لم أسكن قطعاً حي الرضى، أبداً لم ألبس جلباب الانتماء السياسي علي الطرائق الشرقية، ولم أكتب كتابي الذي أُعطيتُ أياهُ بيديِّ الاثنتين عن عروة وصعاليكه، لأني أعرف قبائل العرب وأعرف طبائع ومُنْتدحات البشر منهم، الرقَّيقُ الموؤود والغليظُ، وما بينهما من الحركات الثورية ودعاة الفضيلة. لم أسرق، لم أبن قصرا من المال العام لأختال به علي رفاقي، لم أتشدق يوما بكريمة لأُنقِصها ولم أفر في الشهر الثاني، فقط أوصيتهم خيراً بجهنم، فقد ولدت مكتملا كعساقيل القلقاس، هكذا كما يجب، في الشهر التاسع حين استأذنتها ردهة أُمي. لم أجالس الملوك أبداً. هذا ما اخبرت به نفسي عندما سألني سيد المقام؛ إنها هكذا الطقوس
"أنت في حضرة الملك"
هكذا
لفظها خادم القصرالمزعاج، وكأنه يعرف سريرتي ولامبالتي المنفرجه. بابتسامة
حازمة من فاه ماء، نطق فصلهُ الذي ردَدهُ مليا في ذلك اليوم الصيفي
البارق، وفي أركان القصر الممتلئ برجالات ونسوة الأمم. كلهم جاؤوا يهنئون
الملك الشائخ بعيد ميلاده، حتي صحراويات الولي الرقيبي كُنّ هناك. في هذه
اللحظة بالذات استدركت الذي أعيا من داواه؛ مانويل الثاني، وهو يقف عند
سحائب سقسموند ملك المجر وهنري الرابع ملك انكلترا، لا أدري لماذا، ربما
الأصوات القلقة المكتظة بالتآمر قد أيقظت فيِّ ذاكرة بيزنطة الهرمة وهي
تسّاقط شيئا فشيئا علي يدِ الفتية التي شاءت، ولم تغرب حتى تركت مخلفاتها
النتنة، يتقاتل عليها الرجال قروناً تتوالى
لم أكن أعرف تفاصيل
المقامات الملكية.أخبرت زملائي أن يفعلوا ماسأفعل، هكذا أردت وقضيت،
كيعقوب، فقد علمني ربي أمرا كما علمه وأعطاه ليقضي. وقفنا في طابور
المباركة خلف الوفد الانكليزي، وظل حاجب الملك يرمقني بنظرات تحسّب وتربص،
تماما كتلك التي يريها لك رجالات مطار هيثرو، أكانت خشية ان اقذف المكان
بقنبلة عنقودية يتناثر سوؤها في المكان فينغص بهجة الملك ولو قليلا، فهو
الوصي علي البلاط، والملك حسب علمي لا يحب المتفجرات
لم أكن أعي سر
هذا الاهتمام، كنت لتوي قد فزت بكاتب أفضل قصة ومقالة في مسابقة أدبية
لطلبة مدارس طرابلس، كان احتفاء مدرستي 'حيدرالساعاتي' وصعب المراس مديرها،
'المملوك'، بيِّ حفياً وفوق كل اعتباراتي البسيطة؛ أنا الفتي النحيل، حافي
الألقاب والحفاوات، فلازالت في لساني بقايا ترانيم 'رباية الدايح'، مغتسلا
أنا برائحة ود وطن يمتد بكسل. عله كان سر هذا التكوين اللعين، فقد كنت
دائما أحمل مدينتي علي كتفي وأبدا لم يوجعني ظهري يوما. كنت متحدثا وعرا،
أجتهد في نطق الضاد، وحافظا لمخارج الحروف، سهلا لا قلق يأخذني عند قراءة
النصوص، ومتمكنا من محاكم قرآني
فسعى أحدهم أن أترأس وفد بلادي
لتهنئة الحسن الثاني، ملك المغرب الشقيق، في عيد ميلاده. كانت مفاجأة
منفلتة اللهفة، وغير متوقعة، أنا لم أعرف كيف أُوكلتُ هذه المهمة اللزجة،
فأنا ابن أبي، لا أذهب للملوك، فقد قرأت عنها، عند مصطفي قدري معروف، ما
يكفي ليجردني ذلك من أي وصال محتمل قبالتهم، من كاليقولا وزوجته بولينا الي
سميراميس الآشورية قاتلة حبيبها، واحتاتث وتيرة جزعي عندما عرفت في
الطائرة الخاصة التي أقلتنا أني أصغر الوفد غير الرسمي بكثير. كانت الطائرة
تحمل شخصية حكومية عالية كانت ذاهبة لنفس الغرض، ولكن بشكل رسمي، هو
وأفراد عائلته استضافوني قربهم، وتناولنا في الأدب، فكانت كنطل المريض،
وكان مَلِقاً ولكن ودودا، كان في جعبته السؤال نفسه، من أنت؟ آه من هذا
السؤال، آه، ولكن عندها زال خجلي كمزدلف في العاشر، واعترتني قشعريرة
الجرأة، وسألته ذات السؤال، بل وشاكسته قائلا "الم تثوروا علي الملوك؟ الآن
تذهبون لأفراحها، أملوكنا الجدد أنتم؟"
كنت مرتبكا ولكن لم أظهر
أيا، مرتعشا منتشيا بلحظات لم يسبق لفتى مثلي من ليبيا ان عاشها، فها أنا
أقترب من عرش الملك، رافضا أن أنحني كما أراد سيد المراسم، ها أنا أرفع
رأسي عاليا، وفي قربتي وطني وعلي صدري وتد مضياف لمعارف الأرض، أحن أليه،
أستهله فلج الأيام والقمور الذاهبة، وأركن للحظات أُنشد فيها قصيدتي
اليتيمة: أنا أبن ذاك الوادي العتيق، قومي سكان ليبيا الأوائل؛ الذين آووا
'سيدي عبدالسلام الأسمر'، ثائر ليبيا الأول علي جبروت الأتراك العثمانيين
ومخلفاتهم من أحابيش البحر في ليبيا. فأنا من علي وجهه رُسم أنف عربي، وفي
عينيه نُقشت أهزوجة ترانيم الأمازيغ
ابتسم الملك كملك، وأعرض الفتى،
ذاهبا الي مراكش، هناك حدو ساحة الفناء، الملأى بالعرافات المعدمات، وعصير
البرتقال والفقراء الطيبون، لأُلقيه سلامي علي صاحبي ابن تاشفين، ملكاً
أنحني مليا قُدامه، عل نبله يمسسني وأنا أغتسل بغبار قبره الطهور
الأندلس13.07.12